اسلاميات

الآيات المكية والمدنية

نزول الآيات المكية والمدنية:

تُعطي الأمم جُل اهتمامها البالغ لكي تحافظ على تراثها الفكري ومقومات حضارتها، والأمة الإسلامية أحرزت قصب السبق في عنايتها بتراث الرسالة المحمدية التي شرفت به الإنسانية جمعاء، لأنها ليست رسالة علم أو إصلاح يحدد الاهتمام بها مدى قبول العقل لها واستجابة الناس إليها، وإنما هي فوق زادها الفكري وأسسها الإصلاحية دين يخامر الألباب ويمتزج بحبات القلوب، فنجد أعلام الهدى من الصحابة والتابعين ومن بعدهم يضبطون منازل القرآن آية آية ضبطًا يحدد الزمان والمكان, وهذا الضبط عماد قوي في تاريخ التشريع يستند إليه الباحث في معرفة أسلوب الدعوة، وألوان الخطاب، والتدرج في الأحكام والتكاليف.

ومما رُوِي في ذلك ما قاله ابن مسعود رضي الله عنه : “والله الذي لا إله غيره ما نزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت؟ ولا نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم نزلت؟ ولو أعلم أن أحدًا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبتُ إليه”، والدعوة إلى الله تحتاج إلى نهج خاص في أسلوبها إزاء كل فساد في العقيدة، والتشريع والخلق والسلوك، ولا تفرض تكاليفها إلا بعد تكوين النواة الصالحة لها وتربية اللبنات التي تأخذ على عاتقها القيام بها، ولا تسن أسسها التشريعية ونظمها الاجتماعية إلا بعد طهارة القلب وتحديد الغاية حتى تكون الحياة على هدًى من الله وبصيرة.

والمتصفح لكتاب الله تعالى، يكتشف أن الآيات المكية لها ميزات ليست للآيات المدنية في من ناحية الأثر والمعنى، وإن كانت الآيات المدنية مبنية على الأولى في الأحكام والتشريع. فحيث كان القوم في جاهلية تعمى وتصم، يعبدون الأوثان، ويشركون بالله، وينكرون الوحي، ويكذبون بيوم الدين.

وكانوا يقولون كما ذكر في كتاب الله عز وجل: ﴿قَالُوۤا۟ أَءِذَا مِتۡنَا وَكُنَّا تُرَابࣰا وَعِظَـٰمًا أَءِنَّا لَمَبۡعُوثُونَ﴾ صدق الله العظيم[المؤمنون ٨٢]، وقال تعالى: ﴿وَقَالُوا۟ مَا هِیَ إِلَّا حَیَاتُنَا ٱلدُّنۡیَا نَمُوتُ وَنَحۡیَا وَمَا یُهۡلِكُنَاۤ إِلَّا ٱلدَّهۡرُۚ وَمَا لَهُم بِذَ ٰ⁠لِكَ مِنۡ عِلۡمٍۖ إِنۡ هُمۡ إِلَّا یَظُنُّونَ﴾ صدق الله العظيم [الجاثية ٢٤] وهم أعداء في الخصومة، وأهل مماراة ولجاجة في القول عن فصاحة وبيان؛ حيث كان القوم كذلك نزل الوحي المكي قوارع زاجرة، وشهبًا منذرة، وحججًا قاطعة، يحطم وثنيتهم في العقيدة، ويدعوهم إلى توحيد الألوهية والربوبية، ويهتك أستار فسادهم، ويسَفِّه أحلامهم، ويقيم دلائل النبوة، ويضرب الأمثلة للحياة الآخرة وما فيها من جنة ونار، ويتحداهم -على فصاحتهم- بأن يأتوا بمثل القرآن، ويسوق إليهم قصص المكذبين الغابرين عبرة وذكرى.

وعندما تكونت الجماعة المؤمنة برب العالمين وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، وامتُحنت في عقيدتها بأذى المشركين فصبرت وهاجرت بدينها مؤثرة ما عند الله على متع الحياة -حين تكونت هذه الجماعة- نرى الآيات المدنية طويلة المقاطع، تتناول أحكام الإسلام وحدوده، وتدعو إلى الجهاد والاستشهاد في سبيل الله، وتفصل أصول التشريع، وتضع قواعد المجتمع، وتحدد روابط الأسرة، وصلات الأفراد، وعلاقات الدول والأمم، كما تفضح المنافقين وتكشف دخيلتهم، وتجادل أهل الكتاب وتلجم أفواههم -وهذا هو الطابع العام للقرآن المدني.

السابق
علوم القرآن الكريم
التالي
شُبه الجاحدين على الوحي

اترك تعليقاً