القرآن الكريم

تفسير اية لا يكلف الله نفسا الا وسعها

فضل أواخر سورة البقرة

قال الله في كتابه العزيز في آخر آيتين من سور البقرة: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}، إذ أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بفضل هاتين الآيتين في الحديث الذي رواه مسلم: (لما أُسْرِيَ برسولِ اللهِ ، انتهى به إلى سِدْرَةِ المُنْتَهى ؛ وهي في السماءِ السادسةِ ، وإليها يَنْتَهِي ما عُرِجَ به مِن تحتِها ، وإليها يَنْتَهِي ما أُهْبِطَ به مِن فوقِها ، حتى يُقْبَضَ منها . قال : إذ يغشى السدرة ما يغشى قال : فراشٌ مِن ذهبٍ . فأُعْطِيَ ثلاثًا: الصلواتُ الخمسُ ، وخواتيمُ سورةِ البقرةِ ، ويُغْفَرُ لمَن مات مِن أمتِه لا يُشْرِكُ باللهِ شيئًا المُقْحِمَاتُ).

وفي حديث آخر عن فضلهما أن من قرأ الآيتين كفتاه، أي أجزأتاه عن قيام الليل بالقرآن، وفي تفسير آخر أنهما تُكفيان عن قراءة القرآن كله، وفي تفسير آخر أنهما كفتاه من السوء والشيطان، وفيها تخفيف عن المسلمين وإكرام لهم من الله سبحانه وتعالى، وهي مناسبة ما نزل في الآية الأخيرة من سورة البقرة لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وهو ما سنأتي على تفصيله في الفقرات اللاحقة.

تفسير الآية الأخيرة من سورة البقرة

قال الله تعالى في آخر آية بسورة البقرة:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}، وفيما يأتي أهم ما قاله العلماء في هذه الآية:

  • لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها: وهو خطاب من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين بأنه لم يكلفهم إلا فيما وسعهم، إذ إن الأحداث بالنسبة لعزم النفس في ثلاثة أحوال، الحال الأول هو ما لا يقدرعلى فعله الإنسان، وهو بعيد عن التكليف، والحال الثاني للإنسان قدرة على فعله ولكن يحتاج لمشقة وجهد، أما الحال الثالث فهو التكليف بالوسع، مما يعني أن الله لا يكلف النفس الإ بما تكون فيه طاقته أوسع من التكليف، وللتوضيح يكلف الله المسلم بصلاة خمسة فروض في اليوم، ولكن طاقته قد تفوق ذلك فقد يصلي أكثر من باب التطوع لله عز وجل.
  • لها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت: من الكسب فهو الطبيعي، ومنها يستنتج العلماء أن الكسب غير الاكتساب، ومنها يتبين أن أفعال الخير تأتي بالكسب لا بالاكتساب، ففعل الشر يحتاج لطاقة ومجهود أي بالاكتساب.
  • ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا: وهي خاصة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، إذ تقول لربها أنها تقدره حق قدره، ولا تعصيه تعمدًا، ولكن المعصية قد تكون إما خطًأ أو نسيانًا، وهي من باب التأكيد لقدر الله سبحانه وتعالى.
  • ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا: فالإصر هو الشيء الثقيل، كالإصر الذي نزل على اليهود لما أرادوا التوبة فُطلب منهم قتل أنفسهم والتصدق بربع أموالهم، ولكن الله لم يعامل أمه محمد كالأمم السابقة عندما قالوا له
  • “ربنا ولا يتحملنا ما لا طاقة لنا به”، فالله قد رفع المشقة عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
  • واعف عنا: وهو التوجه إلى الله ضارعين، فالمؤمنون مهما أوتوا من إيمان وحرص وورع فلا يمكن أن يؤدوا حق الله عليهم كاملًا، فالدخول على الله لا يكون بطلب العفو أي محو الذنوب.
  • واغفر لنا وارحمنا: أي الدعوة إلى الله بأن لا يدخلنا في الذنب الذي يغضبه، في حين الرحمة هي الطلب من الله أن لا يدخلنا في الذنب أصلًا.
  • أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين: وفيها اعتراف بالعبودية لله وحده لا شريك له، فهو من يتولى أمورنا ومن ينصرنا، فهو ناصرنا على الكافرين {الم ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}، فالله في أولها ضرب مثلًا بالكافرين والمنافقين، وفي نهايتها يقول الله “فانصرنا على القوم الكافرين”، الأمر الذي يدل على استمرار المعركة بين الكفر والإيمان.

مناسبة نزول الآية الأخيرة من سورة البقرة

روى أبو هريرة في حديث شريف قوله : [لَمَّا نَزَلَتْ علَى رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ “لِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأَرْضِ وإنْ تُبْدُوا ما في أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ به اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشاءُ ويُعَذِّبُ مَن يَشاءُ واللَّهُ علَى كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ” قالَ: فاشْتَدَّ ذلكَ علَى أصْحابِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فأتَوْا رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ ثُمَّ بَرَكُوا علَى الرُّكَبِ، فقالوا: أيْ رَسولَ اللهِ، كُلِّفْنا مِنَ الأعْمالِ ما نُطِيقُ، الصَّلاةَ والصِّيامَ والْجِهادَ والصَّدَقَةَ، وقدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هذِه الآيَةُ ولا نُطِيقُها، قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: أتُرِيدُونَ أنْ تَقُولوا كما قالَ أهْلُ الكِتابَيْنِ مِن قَبْلِكُمْ سَمِعْنا وعَصَيْنا؟ بَلْ قُولوا: سَمِعْنا وأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وإلَيْكَ المَصِيرُ، قالوا: سَمِعْنا وأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وإلَيْكَ المَصِيرُ، فَلَمَّا اقْتَرَأَها القَوْمُ، ذَلَّتْ بها ألْسِنَتُهُمْ، فأنْزَلَ اللَّهُ في إثْرِها: “آمَنَ الرَّسُولُ بما أُنْزِلَ إلَيْهِ مِن رَبِّهِ والْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ باللَّهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بيْنَ أحَدٍ مِن رُسُلِهِ وقالُوا سَمِعْنا وأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وإلَيْكَ المَصِيرُ”، فَلَمَّا فَعَلُوا ذلكَ نَسَخَها اللَّهُ تَعالَى، فأنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: “لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَها لها ما كَسَبَتْ وعليها ما اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا” قالَ: نَعَمْ “رَبَّنا ولا تَحْمِلْ عليْنا إصْرًا كما حَمَلْتَهُ علَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنا” قالَ: نَعَمْ “رَبَّنا ولا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لنا بهِ” قالَ: نَعَمْ “واعْفُ عَنَّا واغْفِرْ لنا وارْحَمْنا أنْتَ مَوْلانا فانْصُرْنا علَى القَوْمِ الكافِرِينَ” قالَ: نَعَمْ).

فوائد الآية الأخيرة من سورة البقرة

تحدث العلماء عن العديد من الفوائد لهذه الآية الكريمة من سورة البقرة، سنذكر بعضًا منها على سبيل المثال لا الحصر، فآيات القرآن الكريم لا حصر لفوائدها على الإطلاق، وهي كالآتي:

  • بينت الآية رحمة الله بعباده، وهو تكليفهم بما يستطيعون فعله، وقدرته تتجلى في تكليفهم بما لا يستطيعون فعله.
  • أثبتت الآية الكريمة ما يتوافق مع القاعدة المعروفة عند العلماء التي تنص على ” لا واجب مع العجز؛ ولا محرم مع الضرورة ؛ لكن إن كان الواجب المعجوز عنه له بدل وجب الانتقال إلى بدله؛ فإن لم يكن له بدل سقط؛ وإن عجز عن بدله سقط”.
  • بينت الآية ما يسره الله على الناس، لقوله لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، فالذي يقدر على الفريضة يُلزم بفعلها، والعاجز عنها منحه الله الرخص الكثيرة، فالعاجز يصلي وهو على الكرسي، وغير القادر على الصيام يدفع كفارة وهكذا.
  • بينت الآية أن ما يفعله الإنسان هو باختياره، ففي هذه الآية تمكن علماء المسلمين من الرد على مقولة “إنه لا اختيار للعبد فيما فعل”.
  • بينت الآية أن النسيان والخطأ وارد على البشر، فالله عرف الإنسان بأنه معرض للوقوع فيهما، فالبنسيان والخطأ يعرف الإنسان ضعفه وقصوره، وبالتالي فالله فضل عليهم العلم والذاكرة، فيدعو الإنسان ربه لكي يرفع عنه النسيان والجهل.
  • بينت الآية أنه ينبغي للإنسان أن يسأل الله العفو، فهو مقصر دائمًا فيما أمره الله، وكذلك يسأل الله الرحمة فيما يستقبله الإنسان من زمنه.
  • بينت الآية ولاية الله على المؤمنين، وأن لا ولي للمؤمن إلا ربهم، إذ إن ولاية الله إما أن تكون ولاية خاصة على المؤمنين، أو ولاية عامة على أمور الخلق.
السابق
فوائد سورة النجم للزواج
التالي
فوائد تشغيل سورة البقرة في البيت

اترك تعليقاً